نماذج من مخالفة خبر الواحد الأصول عند الأحناف.

نماذج من مخالفة خبر الواحد الأصول عند الأحناف.

النموذج الأول: غسل الإناء من سؤر الكلب بسبع مرات.

والسؤر: بقية الشيء، وجمعه أسآر. ويستعمل السؤر في الطعام، والشراب، وغيرهما. يقال: أسار فلان من طعامه وشرابه سؤرا، وذلك إذا أبقى منه بقية. [1]

عن أبي هريرة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات ".[2]

لم يلتزم أبو حنيفة بالعدد المذكور في هذا الحديث بل قال الكلب نجس ويغسل الإناء من ولوغه مرتين أو ثلاثا كسائر النجاسات من غير حد فردوا الأحاديث في ذلك وما صنعوا شيئا. [3] 

وسبب تركهم هذا الحديث أنه يخالف الكتاب في قوله تعالى: "فكلوا مما أمسكن عليكم" والحديث يتصادم مع أصل عام هو: أن الأصل في الحي الطهارة، وأن المعتبر في النجاسات إنما هو إزالة العين. وخبر ولوغ الكلب لم تعضد القواعد ولا الأصول. وعلاوة من كل ذلك راوي الحديث الذي هو أبو هريرة ليس فقيها عندهم.

النموذج الثاني: إتيان المرأة وهي حائض.

عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام -فإذا وقع على أهله وهي حائض فليتصدق بنصف دينار. وروي عنه أيضا في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو بنصف دينار. [4]

لم يعمل أبو حنفية بهذا الحديث مع أن الراوي ابن عباس وهو يعد من الفقهاء عندهم، وذلك لمخالفته الأصل العام الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل. ولأن الحديث غير مشهور ولم يعضده أصل آخر.

قال أبو عمر: حجة من لم يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة - اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس مرسلا، والذمم على البراءة، لا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه. وذلك معدوم في هذه المسألة. [5]

النموذج الثالث: العمل في صلاة الكسوف

عن عائشة -زوج النبي -صلى الله عليه وسلم -قالت: خسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -والناس فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام -وهو دون القيام الأول -ثم ركع فأطال الركوع -وهو دون الركوع الأول -ثم رفع فسجد ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك. ثم انصرف وقد تجلت الشمس. فخطب الناس فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته. [6] ولما ثبت أيضا من هذه الصفة في حديث ابن عباس: أعني من ركوعين في ركعة.

رد أبو حنيفة هذا الحديث -مع كون مرويا من عائشة وهي فقيهة، ويعضده أيضا حديث فقه آخر وهو ابن عباس-استنادا إلى حديث أبي قلابة، عن النعمان بن بشير قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في الكسوف نحو صلاتكم يركع ويسجد ركعتين ركعتين، ويسأل حتى تجلت. [7] وقال: إن صلاة الكسوف ركعتان على هيئة صلاة العيد والجمعة. وذلك لموافقة هذا الأثر المشهور الأصول العامة وهي: هيئة سائر الصلوات المعروفة.

النموذج الرابع: وضوء الميت عند غسله.

عن أم عطية قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم لهن في غسل ابنته: "وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ".[8]

لم يأخذ أبو حنيفة بهذا الحديث وذلك أن الأصل يقتضي أن لا وضوء على الميت لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة وإذا أسقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء ولولا أن الغسل ورد في الآثار لما وجب غسله.

النموذج الخامس: باب صدقة الخيل

حديث أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة ".[9]

ترك أبو حنيفة هذا الحديث لمخالفته الأصل وهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل. فأشبه الإبل والبقر. وهذا الأصل يعضده حديث آخر وهو حديث أبي هريرة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: " الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله ... ورجل ربطها تغنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر ".[10]

فذهب أبو حنيفة إلى أن حق الله المذكور في الحديث هو الزكاة. فخلص إلى أن فيها الزكاة.

النموذج السادس: صحة حج الصبي.

حديث ابن عباس ضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بضبعي صبي كان معها. فقالت: ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: "نعم ولك أجر"[11].

رد الحنفية هذا الحديث مع كون راويه فقيها وهو ابن عباس، لأنه خالف حديثا مشهورا وهو رفع القلم عن ثلاث ... وخالف أصلا من الأصول العامة، وهو أن العبادة البدنية لا تصح من غير عاقل. [12]

النموذج السابع: ذكاة الجنين بذكاة الأم

عن أبي الوداك جبر بن نوف، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البقرة، أو الناقة، أو الشاة ينحرها أحدنا فيجد في بطنها جنينا، أيأكله أم يلقيه ؟ قال: إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه ".[13]

فـأبو حنيفة رد هذا الحديث لمخالفته الأصل: وهو أن الجنين إذا كان حيا ثم مات بموت أمه فإنما يموت خنقا. فهو من المنخنقة التي ورد النص بتحريمها في قوله تعالى: (... والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم) [14]الآية. وخلص إلى أنه إن خرج حيا ذبح وأكل وإن خرج ميتا فهو ميتة.

النموذج الثامن: المساقاة.

الحديث: عن ابن عمر قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير فلما ولى عمر قسم خيبر خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض والماء أو يضمن لهن الأوساق كل عام فاختلفن فمنهن من اختار الأرض والماء ومنهن من اختار الأوساق كل عام فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. [15]

المساقاة: هي عمل الحائط على جزء من ثمرته، وهي مأخوذة من السقي، لأن السقي جل عمل الحوائط وهو يصلح ثمرتها وينميها. [16]

ترك أبو حنيفة مشروعية المساقاة لمخافته الأصول المجمع عليها، وهي بطلان بيع ما لم يخلق، والمساقاة هي استئجار ببعض الخارج وهي منهي عنه. ولأن المساقاة منسوخة بنهي عن المزابنة. [17]

عثمان سنغاري.

عبد الله الحسين ميغا.

---

[1] - لسان العرب (6/ 132)

[2] - الاستذكار (2/ 207)

[3] - الاستذكار (2/ 210)

[4] - الاستذكار (3/ 187)

[5] - الاستذكار (3/ 188)

[6] - الاستذكار (7/ 89)

[7] - الاستذكار (7/ 100)

[8] - الاستذكار (8/ 193)

[9] - الاستذكار (9/ 278)

[10] - الاستذكار (14/ 12)

[11] - أخرجه أحمد 1/219 عن ابن عباس. ورواه مسلم: كتاب الحج 15، باب 72، صحة حج الصبي.

[12] - الاستذكار 13/329.

[13] - الاستذكار (15/ 255)

[14] - سورة المائدة. آية 3

[15] - صحيح مسلم ـ عبد الباقي ـ (3/ 1186)

[16] - المقدمات الممهدات 2/547.

[17] - الاستذكار 21/209. كتاب المساقاة. باب ما جاء في المساقاة.