dimanche 5 avril 2015

قواعد تعليل الأخبار المذهبية الخاصة


قواعد تعليل الأخبار المذهبية الخاصة
الفصل الثالث من السلك التكوين العالي المعمق
بمؤسسة دار الحديث الحسنية
المؤسم الجامعي: 2014-2015

أستاذ المادة: الأستاذ الدكتور محمد الناصري حفظه الله.
أستاذ الحديث وعلومه بمؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط.

كتابة الطالب الباحث/ عبد الحميد مومن.
التنسيق/ عثمان سنغاري
الشق النظري:
مفهومها: هي القواعد التي اختص بها كل مذهب في تعليل عدوله عن ظواهر أخبار صحت، أو العمل بأخبار ضعيفة، سواء كان هذا العدول تركا لظاهر الحديث، أو تأويلا له دون ترك.
من ذلك عدول مالك عن ظاهر حديث "البيعان بالخيار" وهو افتراق الأبدان، إلى افتراق الأقوال.
لماذا البحث في هذا الموضوع؟

درسنا فيما سبق الاختلاف في خصائص الأخبار المحتج بها عند أئمة المذاهب:
من حيث الثبوت: الشافعي اشترط الرفع والاتصال. وغيره أدخل الموقوف والمرسل.
من حيث الدلالة: الشافعي: الحديث المرفوع حجة بنفسه لا يتوقف الاحتجاج به على أمر خارجي. غيره: يشترط ألا يخالف ما عليه الصحابة أو العمل أو المشهور.
ثم درسنا استثمار العلماء للأخبار الحجة عندهم.
ومقاصد هذا الفصل تتمة لما سبق؛ إذ سنحاول معرفة لماذا حصل الاتفاق على صنف من الأخبار، كالمرفوعة المتصلة، ثم نجد بعض العلماء يعمل بخلافه بعدوله عن ظاهره أو تأويله، أو يعمل بما حكم بضعفه؟
لتحقيق هذا المقصد لابد أولا من معرفة حقيقة الشروط المتفق عليها؛ كيف بدأت؟ وهل تم الاتفاق عليها ابتداء؟ لماذا تم اشتراطها؟ وهل تفيد القطع في صحة الخبر؟ وهل يمكن الاستعاضة عنها بما يقوم مقامها؟
تذكيـــر بخصائص الخبــــر الصالح لــــلاحتجاج:
منشأ الشروط وحقيقتها عند واضعها:
سننطلق من نصوص الشافعي لنفهم حقيقة هذه الشروط ثم نتحقق من مدى موافقتها لما استقر عليه الناس بعده.
النص1: سئل الشافعي: بأي شيء تثبت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نترك لرسول الله حديثا أبدا إلا حديثا وجد عن رسول الله حديث يخالفه."
Ü الحديث حجة بنفسه إذا جمع شروط الصحة (الرفع والاتصال وعدالة الراوي وضبطه) ولم يخالفه حديث مثله.
النص2: قال: " ونجد الدلالة على صدق المحدث وغلطه ممن شركه من الحفاظ وبالكتاب والسنة ففي هذا دلالات، ولا يمكن هذا في الشهادات."
Ü يضيف شروط:
o      موافقة من شاركه من الحفاظ [وهي الاعتبار الذي به يوثق]؛
o      موافقة الكتاب؛
o      موافقة السنة.
النص3: "ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه."
Ü يضيف عدم الشذوذ؛ وإن كان راويه ثقة.
النص4: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة[1] حتى يجمع أمورا  منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع لا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام وإذا أداه بحروفه لم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث، حافظا إذا حدث به من حفظه، حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم، بريا من أن يكون مدلسا؛ يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي، ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولا إلى النبي أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه ومثبت على من حدث عنه فلا يستغني كل واحد منهم عما وصفت."
Ü نص الشافعي الأول عام، وبإضافة النصوص الثلاثة بعده نخلص إلى تركيب مفهوم الخبر الحجة عند الشافعي.
فالحديث الحجة عنده ما جمع ما يلي:
ما رواه ثقة عن مثله متصلا إلى منتهاه، والثقة هو: العدل (ثقة في دينه صادق) الضابط (ضبط سطر أو صدر)، العاقل لما يرويه، العالم بما يحيل المعاني إن حدث بالمعنى، وألا يكون مدلسا، وأن يوافق الحفاظ إن شاركهم. ولم يكن شاذا: فلا يخالفه من هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه. وألا يخالف كتابا أو سنة. وهو بذلك يكون حجة بنفسه فلا يترك لغيره. [وقد يستدل على صحة الحديث بموافقة الكتاب والسنة].
مآل هذه الشروط بعد الشافعي:
الرامهرمزي: نبه على ضرورة اعتبار الفقه في النقد. وهذا النص العام ظل يتردد مع الإمام مسلم وابن حبان وابن خزيمة إلى أن جاء الرامهرمزي فعقد فصلين؛
أولهما: أشار فيه إلى اعتبار الفقه الموروث في النقد.
وهو: القول في فضل من جمع بين الرواية والدراية[2]، وهو يقصد الفقهاء. وقد تناول فيه جهود الفقهاء في النقد انطلاقا من علمهم بالسنن ثم درايتهم بكيفيات الاستدلال بها. لذلك تجد الفقيه يروي الحديث ولا يعمل به، قال الرامهرمزي: " وليس يلزم المفتي أن يفتي بجميع ما روى ولا يلزمه أيضا أن يترك رواية ما لا يفتي به." وذلك لأنه لم يقم مقام الحجة عنده وإن صح سنده[3].
والثاني: أشار فيه إلى خصوصية كل من أهل الرواية وأهل الدراية:
قال: فصل آخر من الدراية يقترن بالرواية مقصور علمها على أهل الحديث، وفصلا آخر فقال: القول في ترجمة المشكل المقصور علمه على أصحاب الحديث.
وخلاصة هذه الفصول الثلاثة: أن من جمع بين الدرايتين حسن نقده.
فالشافعي لم يقتصر على الشروط الخمسة، بل اعتبر أمورا أخرى أشار إليها الرامهرمزي في فصوله هذه.
ثم جاء الخطيب البغدادي فقال: "والأخبار كلها على ثلاثة اضرب: فضرب منها يعلم صحته وضرب منها يعلم فساده وضرب منها لا سبيل إلى العلم بكونه على واحد من الأمرين دون الآخر...
أما الضرب الأول، وهو ما يعلم صحته، فالطريق إلى معرفته إن لم يتواتر حتى يقع العلم الضروري به أن يكون مما تدل العقول على موجبه، ... وقد يستدل أيضا على صحته بأن يكون خبرا عن أمر اقتضاه نص القرآن أو السنة المتواترة أو اجتمعت الأمة على تصديقه أو تلقته الكافة بالقبول وعملت بموجبه لأجله...
وأما الضرب الثالث الذي لا يعلم صحته من فساده فإنه يجب الوقف عن القطع بكونه صدقا أو كذبا وهذا الضرب لا يدخل إلا فيما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون مثل الأخبار التي ينقلها أصحاب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع المختلف فيها وإنما وجب الوقف فيما هذه حاله من الأخبار لعدم الطريق إلى العلم بكونها صدقا أو كذبا فلم يكن القضاء بأحد الأمرين فيها أولى من الآخر إلا انه يجب العمل بما تضمنت من الأحكام إذا وجد فيها الشرائط التي نذكرها بعد إن شاء الله تعالى".
قلت: أفاد أن مما تعلم به صحة الحديث أن يكون متضمنا لما اقتضاه نص قرآني أو سنة متواترة أو اجتمعت الأمة على تصديقه أو تلقته الكافة بالقبول وعملت بموجبه لأجله. وأن مثل هذا لا يحتاج فيه إلى الشروط الخمسة. والشروط الخمسة خاصة بالأحاديث المتضمنة للأحكام المختلف فيها، فلا يجب العمل بها إلا إذا حققت الشروط.
خلاصة: إن الشروط التي تذكر في كتب المحدثين لمعرفة الصحيح هي شروط عامة مطلقة قررها الشافعي رحمه الله في أثناء كتبه وعبر عنها بأن ما نقله الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة بنفسه مستغن عن غيره.
وإذا ما نظرنا إلى صنيع الشافعي المتمثل في تركه لمجموعة من السنن جمعها عليه، مبينا تناقضه فيما قرره، كل من عبد الله بن الحكم وابن اللباد وغيرهما، تبين لنا أنه لابد من إعادة النظر في نصوص الشافعي المتعلقة بالخبر الحجة وتحقيقها وتحليلها وإعادة تركيبها لأنه يعتبر رأس القائلين بتلك القاعدة المطلقة فيما تقرره كتب أصول الفقه ومصطلح الحديث.
وبالرجوع إلى هذه النصوص تبين أن للإمام الشافعي تقييدات لهذه القاعدة المطلقة، وأنها في الحقيقة خلاصة جهد ينبغي أن يقوم به المحدث والفقيه معا. وقد عبر عن ذلك بوضوح تام في الرسالة عندما قال: ولا يستدل على أكثر صدق الخبر إلا بصدق مخبره إلا في الخاص القليل منها. فهو يقرر هنا أن الاستناد في حجية الخبر إلى ثقة الراوي فقط ليست مطلقة. وفي نص آخر في جماع العلم يقرر أن ما يميز الرواية عن الشهادة هو أن الرواية لها دلالات (ضمانات) ليست للشهادة رغم خطورة الشهادة، منها: تطلب الموافقة عند الاشتراك في الرواية بين الثقات، ومنها عدم مناقضة الكتاب، وثالثها عدم مناقضة السنة الثابتة المشتهرة (ما تلقته الأمة بالقبول والمتواتر).
فهذا يدلنا على أن للشافعي اعتبارات أخرى تنضاف إلى كون الراوي ثقة. وقد ساق ضابطا لتوثيق الراوي وفيه أنه إذا شارك الثقات وافقهم، وأن يكون عالما بما يحيل المعاني.
فالشافعي إذا قيد هذا الشرط المطلق. وكما أن للشافعي أمور أخرى كذلك لغيره اعتبارات أخرى يستندون إليها في القول بحجية الخبر.
لذلك أشار الرامهرمزي والبغدادي إلى فضل من جمع بين الدرايتين (الفقه والحديث) في دراسة الحديث. وهذا في حقيقة الأمر يطرح إشكالا إذا ما أردنا معرفة علل عدول الفقهاء عن ظاهر الأحاديث، فالفقيه لا يصرح بكل أدلته، ولا يجب عليه ذلك كما قرر الرامهرمزي. ومن ثم يصعب القطع بكونه ترك الحديث؛ [إذ قد يكون أعمله من وجه لا يظهر إلا باستحضار أدلته مجتمعة].
من هذه الاعتبارات الأخرى:
ابن عبد البر: " كثير من أصحاب الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ من ذلك رده وسماه شاذا"
وعلق أبو زهرة على كلام ابن عبد البر هذا بقوله: "وهذا الكلام يستفاد منه أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يرد الأحاديث إذا خالفت معاني القرآن، سواء أكانت مأخوذة بالنص أم مستنبطة باستخراج علل الأحكام، وأنه يسمي الحديث شاذا إذا لم يوفق تلك المعاني، والأحاديث المجتمع عليها"
خلاصات:
يلاحظ على هذه الخصائص أنها تتصل مطابقة بحال الراوي، أي أساسها الجرح والتعديل.
أشار العلماء مبكرا ومنهم الشافعي إلى أن صدق الخبر قد لا يكفي فيه الجرح والتعديل، وإن عبر عن ذلك بكونه قليلا.
لم تكن الأدلة التي هي غير الجرح والتعديل المعتمدة في صدق المخبر محل اتفاق، كما لم تكن شروط اعتبار –ما اتفقوا فيه- محل إجماع  مثل: ”اعتبار معاني القرآن“   

إشكال ومحاولة فهمه: (إشكال معيار الجرح والتعديل في القبول والرد)

هل يُكتفى بالجرح والتعديل في الحكم على حجية الخبر على الأحكام؟ أم لابد من الاستناد إلى أمور أخرى غير السند؟
تقدم أن الشافعي اشترط ثقة الراوي، وبين معنى الثقة عنده بتفصيل في النصوص السابقة. وهذه الشروط تفرض سؤالا علميا مفاده: كيف يحكم على الراوي بالتوثيق؟
والجواب أن توثيق الراوي يعتمد فيه، بعد قبول عدالته، على اختبار مروياته، وهو مقتضى قول الشافعي: "إذا شرك غيره من الثقات لا يخالفهم"[4].
لكن إذا كان اختبار المرويات هو الأصل المعتمد عليه في التوثيق، وكان الحكم الناتج عنه أغلبيا؛ فإن اعتماد هذا التوثيق يتوقف على النتائج التفصيلية للاختبار. فقد قالوا إن الاختبار يعطي درجة الراوي بناء على ما حصل للراوي من خلل في بعض مروياته مقارنة بما سلم منها؛ فإذا غلب الضبط والاتفاق مع من شاركهم من الثقات حكم عليه بالتوثيق، وإذا غلب الخلل حكم عليه بالتضعيف.[5]
وبناء على هذا المنهج وجدنا من يحكم على الراوي من خلال مروياته وإن لم يعرفه، ففي كتب العلل كعلل ابن أبي حاتم نجده قد يحكم على الراوي بأنه لا يعرفه لكنه يستطرد في بيان درجة مروياته. كأن يقول: يونس بن سليم لا أعرفه ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري، فهنا أبو حاتم حكم على الراوي بالجهالة ومع ذلك استطرد في طمر درجة الحديث الذي رواه. وسئل عن الحسن بن مسلم فقال: لا اعرفه لكن تدل مروياته على الكذب. ولو أضفنا إلى هذا ما صنعه ابن عدي في الكامل عندما اختبر مرويات رواة ضُعفوا لعلمنا أن درجة الراوي تعرف بعدما يتبين للناقد كم له من المرويات غير المحفوظة وكم له من المرويات التي ضبطها.
وخلاصة القول: أن منهج نقد الرواة يقتضي أن ينضاف إلى الشروط المطلقة شرط آخر وهو النظر في كتب العلل وما يقوم مقامها، ككتاب "الكامل" والشروح، قبل الاحتجاج بالخبر المروي عن ثقة عن مثله إلى منتهاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه الكتب تشتمل على ما وهم فيه الثقات وما كان في حديثهم من أخطاء سواء منهم أو ممن روى عنهم.
والقاعدة: أن نستفيد من كتب العلل في تبين ضعف بعض مرويات من وُثقوا، وكتاب الكامل في تبين صحة بعض مرويات من ضُعفوا، وبعض كتب الشروح في كلا الأمرين.
ومنه فينبغي أن ينضاف علم العلل إلى الجرح والتعديل.
خلاصة:
يمثل معيار الجرح والتعديل في القبول والرد، إشكالا كبيرا، إذ كيف يستدل على ضبط الراوي بمروياته، ثم تكون النتيجة حجة على ضبط هذه المرويات مطلقا؟ وقد أشار الخطيب إلى أن أحكام الجرح والتعديل هي في الجملة لا في التفصيل، ولذلك فليس الضعيف مردودا دائما ولا الحافظ مقبول الخبر دائما(الكفاية). فهذه النتائج إذا تدل على ضرورة وجود معايير أخرى.

إشكال معاييــــر الخبـــر الصالح لـــــلاحتجاج:
كيف وضعت معاييــر أو شروط الخبــــر الصالح لـــــلاحتجاج؟
هذه المعايير المطلقة المتمثلة في نقل الثقة عن الثقة إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة لا يخرج طريق استخلاصها عن أحد أمرين؛
فإما أن يكون استقراء للأحاديث الصحيحة ثم استخراج ما تتقاسمه من أوصاف وجعلها معايير.
وإما أن يكون نظرا في طبيعة جنس الخبر وما يمكن أن يعتريه من خلل في النقل ثم وضع معايير تحميه من هذا الخلل.
أما الافتراض الأول فغير وارد لأننا وجدنا أن روايات بعض غير المعروفين قبلت [عند سلف الشافعي، فلو صح الافتراض الأول لقبل الشافعي الخبر مع الجهالة براويه].
فيبقى الافتراض الثاني. ومما يؤكد ذلك أن الشافعي في الأصول كذلك لم يستند إلى صنيع من تقدمه من المجتهدين، بل نظر في طبيعة كلام العرب الذي به أنزل الخطاب الشرعي.
من خلال هذا المبحث والذي قبله يظهر أن هذه الشروط اجتهادية[6]؛ فالشافعي إنما اجتهد في وضع هذه الشروط، وكان اجتهاده مسددا بغرض حفظ الحديث مما قد يعتريه من خلل. ومن ثم فباب الاجتهاد مفتوح، ويجوز لغيره من العلماء أن يحدث شروطا وقوانين أخرى تتوخى نفس غرض الشافعي.
إذا فهي اجتهادية، وتفصيل ذلك ما يلي:
معاييــــر القبول والرد اجتهاد من النقاد
المعايير اجتهادية: فقد اجتهد البخاري ومسلم فاشترط كل منهما شروطا خاصة بهما لمزيد احتياط منهما.
واختلف العلماء في الجرح والتعديل، وفي الإرسال، لذلك حدث الأئمة عن الثقات وغيرهم، فإذا سئلوا بينوا حالهم.
وهناك اختلاف بين الفقهاء والمحدثين في الشروط المعتبرة في الصحيح، كما ذكر ابن دقيق.
1.      قال الحاكم النيسابوري في المدخل إلى الصحيح:
وأخبرني فقيه من فقهائنا عن أبي علي الحسين بن محمد الماسرجسي رحمنا الله وإياه انه قال: قد بلغ رواة الحديث في كتاب التاريخ لمحمد بن إسماعيل قريبا من أربعين ألف رجل وامرأة، والذين يصح حديثهم من جملتهم هم الثقات الذين أخرجهم البخاري ومسلم بن الحجاج، ولا يبلغ عددهم أكثر من ألفي رجل وامرأة. فلم يعجبني ذلك منه رحمه الله وإيانا، لأن جماعة من المبتدعة والملحدة يشمتون برواة الآثار بمثل هذا القول؛ إذا روى عن رجل من أهل الصنعة. فقلت والله الموفق إن محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم ابن الحجاج شرط كل واحد منهما لنفسه في الصحيح شرطا احتاط فيه لدينه.
2.      وقال الحاكم في كتاب المدخل إلى الإكليل[7]:
ولعل قائلا يقول وما الغرض في تخريج ما لا يصح سنده ولا يعدل رواته؟ والجواب عن ذلك من أوجه:
منها أن الجرح والتعديل مختلف فيهما وربما عدل إمام وجرح غيره، وكذلك الإرسال مختلف فيه فمن الأئمة من رأى الحجة بها ومنهم من أبطلها، والأصل فيه الاقتداء بالأئمة الماضين رضي الله عنهم أجمعين كانوا يحدثون عن الثقات وغيرهم فإذا سئلوا عنهم بينوا أحوالهم .... لم يخل حديث إمام من أئمة الفريقين عن مطعون فيه من المحدثين وللائمة رضى الله عنهم فى ذلك غرض ظاهر وهو أن يعرفوا الحديث من أين مخرجه والمنفرد به عدل أو مجروح. فالشروط إذا اجتهادية.
3.      قال ابن دقيق:
 الصحيح: ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال[8] مع التَّيقُظ[9]، العدالة المشترطة في قبول الشهادة، على ما قُرِّر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً.
وزاد أصحاب الحديث ألا يكون شاذاً ولا معلَّلاً. وفي هذين الشرطين نَظَرٌ على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التي يعلِّل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء[10]؛ وبمقتضى ذلك حُدَّ الحديث الصحيح بأَنه: الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معلّلاً.
ولو قيل في هذا الحدِّ: الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره. لكان حسناً، لأَنَّ من لا يشترط بعض هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف. ومن شَرْطِ الحدِّ أن يكون جامعاً مانعاً.
فابن دقيق فطن إلى ضرورة تعديل تعريف الصحيح حتى يشمل الفقهاء والمحدثين[11].
خلاصة شروط الصحيح: اجتهاد من النقاد
         نأخذ من النصوص السابقة أن المعايير وضعت لنوع من الأخبار وهي الواردة في المختلف فيه من أمور الدين.
         أول من ذكر شروط الصحيح المحتج به على وجه الحصر كقانون هو الإمام الشافعي.
         تدل الوقائع النقدية أن الإمام سعى إلى توحيد المرجعية النقدية، لكنه لم تلغ المرجعيات الأخرى السائدة.
         لقد شعر الأئمة المؤصلون والنقاد بوجود واقع نقدي عملي على غير القواعد التي حاول الشافعي تعميمها وإرساء منطقها، ومن بعده المحدثون الرواة النقاد.
إذا عرفنا وضع هذه المعايير وأصولها، وأنه يمكن أن تضاف شروط أخرى على التي قررها الشافعي. فلنشرع الآن في ذكر الشروط التي اشترطها الفقهاء واختلفوا بها عن المحدثين تبعا لاختلاف مقصد كل منهم. فالفقهاء كان قصدهم العمل بخلاف المحدثين لذلك وسعوا في بعض الشروط وضيقوا في أخرى.
من خلال ما تقدم يمكننا الحديث عن علل خاصة تخص بعض المذاهب دون غيرها.

هل كان للعلماء شروط لقبول الخبــر في الاحتجاج غيــــر الجرح والتعديل؟ وما هي هذه الشروط؟
أما الجرح والتعديل فلا مناص منه في قبول الخبر الشرعي لخصوصيته واختلافه عن الخبر التاريخي، وقد أشار الخطيب البغدادي وابن خلدون والعروي ورستم إلى هذه الخصوصية.
وإذا ثبت أن شروط الشافعي اجتهادية، فلا شك أنها قابلة لأن يزاد عليها، خاصة وأننا في مجال الأخبار الصالحة للاحتجاج في الأحكام؛ فليس مجرد الثبوت يجعله صالحا لذلك. أضف إلى ذلك أن غاية الشافعي ومن تبعه من المحدثين بعده انحصرت في إثبات الأخبار، أي خدمتها من حيث الثبوت، بينما غاية الفقهاء تمثلت في الاحتجاج بها في الأحكام. فلا غرو أن يكون للفقهاء شروط غير الجرح والتعديل.
فما هي هذه الشروط؟
نقدم بمقدمتين تذكيريتين:
مقدمة1: دلالة اللفظ على المعنى في العربية من وجهين؛ أصلي وتبعي. والفقهاء لا يأخذون الفقه من ظواهر النصوص فقط، وإنما يعتبرون المعاني التبعية المستفادة من اجتماع النصوص، وهذه المعني أقوى من ظاهر نص أو نصين. ومنه فإن تعليل العدول بالعمل ونحوه تعليل ظاهر لا حقيقي.
يشير الشاطبي إلى أن العربية تدل بلفظها على المعنى من وجهين؛ معنى أصلي ومعنى تبعي. والعمل على الأصلي؛ إلا أنه لا ينبغي إغفال التبعي إذ قد يصلح إعماله في مواطن.
مثاله: قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) إلى قوله (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا). فالمعنى الأصلي هو بر الوالدين والحث عليه. ومن المعاني التبعية أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهذا المعنى مستفاد من القرائن المحتفة نحو قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).
مما يعني أن الفقهاء لا يأخذون الفقه من ظواهر النصوص، وإنما يعتبرون المعاني التبعية المستفادة من اجتماع النصوص. ومن ثم فإن ما استقر في نفس الفقيه من المعاني التبعية المستفادة من اجتماع النصوص أقوى من ظاهر نص أو نصين.
وهذا الذي خلصنا إليه يجعل تعليل عدول الفقيه عن ظاهر الحديث بالعمل ونحوه ضربا من التعليل الظاهر الذي قد يبدوا ضعيفا في بعض الأحيان. والحقيقة أن علة العدول قد تكون اتباعا منه للمعنى المستفاد من اجتماع الأدلة التي لم يصرح إلا بأظهرها. فاكتفاء إذا في تعليل العدول بالقول إنه عدل عن ظاهر النص تفكير تجزيئي.
مقدمة2: اقتضاء الأدلة الأحكام أصلي وتبعي، والفقيه قد يعمل بالمقتضى التبعي فيظهر أنه عدول، وهو ليس كذلك.
يشير الشاطبي إلى أن اقتضاء الأدلة للأحكام اقتضاء أصلي واقتضاء تبعي؛ فالأصلي ما تقتضيه الأدلة في معزل عن محل الحكم المعين، والتبعي هو تنزيل الحكم على المحل المعين. قال: وهذا سر تطويل الفقهاء في كتبهم المطولة.
لذلك يجب الحذر في تبين علل العدول بالنظر هل هو اقتضاء أصلي أم تبعي؛ أي هل هو عدول أم تنزيل. [ثم هل هو عدول عن ظاهر النص أم أنه اتباع لمعنى أقوى من الظاهر مستفاد من أدلة مجتمعة].
قواعد نقدية من أئمة المذاهب
1.      من الشروط: الاشتهار بالطلب وهو قدر زائد على الشهرة المخرجة من الجهالة. وقد يستغنى عنها بكثرة المخارج. وقد اعتبره صاحبي الصحيح مما ذكر ابن حجر.
تدريب الراوي: بقي للصحيح شروط مختلف فيها منها ما ذكره الحاكم من علوم الحديث أن يكون راويه مشهورا بالطلب وليس مراده الشهرة المخرجة عن الجهالة بل قدر زائد على ذلك. قال شيخ الإسلام والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك إلا إذا كثرت مخارج الحديث فيستغنيان عن اعتبار ذلك كما يستغني بكثرة الطرق عن اعتبار الضبط التام قال شيخ الإسلام ويمكن أن يقال اشتراط الضبط يغني عن ذلك.
2.      عدم العلة: الفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة.
ومنها أن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط وإنما يعرف بالفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة قال شيخ الإسلام هذا يؤخذ من اشتراط انتفاء كونه معلولا. وقرر الخطيب والحاكم كذلك أن من الحديث ما لا تعرف صحته بالجرح والتعديل[12].
3.     العلم بما يحيل المعنى إذا أدى بغير اللفظ
ومنها أن بعضهم اشترط علمه بمعاني الحديث حيث يروي بالمعنى وهو شرط لا بد منه لكنه داخل في الضبط.
4.     فقه الراوي عند المخالفة أو التفرد بما تعم به البلوى.
ومنها أن أبا حنيفة اشترط فقه الراوي قال شيخ الإسلام والظاهر أن ذلك إنما يشترط عند المخالفة أو عند التفرد بما تعم به البلوى.
5.      المعاصرة واللقيا معا: ثبوت السماع (البخاري).
ومنها اشتراط البخاري ثبوت السماع لكل راو من شيخه ولم يكتف بإمكان اللقاء والمعاصرة.
6.     العدد كالشهادة.
ومنها أن بعضهم اشترط العدد في الرواية كالشهادة.
7.     عدم مخالفة الآحاد لعمومات القرآن وظواهره (البزدوي)
ومنها ألا يخالف خبر الآحاد عمومات القرآن وظواهره[1]. يقول البزدوي رحمه الله في الكنز:" الكتاب ثابت بيقين، فلا يترك بما فيه شبهة، ويستوي في ذلك الخاص والعام والنص والظاهر، حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله. ولا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا، ولا يترك الظاهر من الكتاب ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصا"[2].
8.     عدم مخالفة الآحاد السنة الثابتة.
لا يخالف السنة الثابتة[1]. يقول الجصاص رحمه الله في (باب القول في قبول شرائط أخبار الآحاد):" من العلل التي يرد بها الأخبار عند أصحابنا: ما قاله عيسى بن أبان. ذكر أن خبر الواحد يرد لمعارضة السنة الثابتة."[2]
9.     عدم مخالفة الأصول المستنبطة من الكتاب والسنة بالاستقراء.
ألا يخالف الأصول المجتمعة والقواعد الكلية المستنبطة من الكتاب والسنة بعد الاستقراء التام"[1]، قال الإمام القدوري في التجريد:" من أصلنا أن خبر الواحد إذا كان مخالفا للأصول لم يجب العمل به، ووجب حمله على وجه يوافقها، لأن الأصول مقطوع بها، فلا تترك احكاما معلومة بالظن"[2]
10. عدم مخالفة الإجماع والعمل المتوارث بين الفقهاء:
ألا يخالف الإجماع والعمل المتوارث بين الفقهاء[1]: قال الجصاص رحمه الله:" ليس أحد من أهل العلم يرى خبر الواحد مقدما على الإجماع، بل الإجماع أولى من خبر الواحد عند الجميع، ويدل على ذلك أن خبر الواحد يرد بالإجماع، ولا يرد الإجماع بخبر الواحد"[2].
11. عدم مخالفة موجبات العقول:
ألا يخالف موجبات العقول[1]: قال الإمام الجصاص في الفصوص:" ومما يرد به أخبار الآحاد من العلل أن ينافي موجبات أحكام العقول، لأن العقول حجة لله تعالى، وغير جائز انقلاب ما دلت وأوجبته، وكل خبر يضاده حجة العقل فهو فاسد غير مقبول، وحجة العقل ثابتة صحيحة إلا أن يكون الخبر محتملا لوجه لا يخالف به أحكام العقل فيكون محمولا على ذلك الوجه"[2].
12. ألا يرد فيما تعم به البلوى:
حيث يحتاج إليه الناس كلهم حاجة متأكدة مع كثرة تكرره، فما كان هذا وصفه فإن سبيل ثبوته الاستفاضة والاشتهار، أو تلقي الأمة بالقبول.
13. استمرار حفظ الراوي لمرويه من آن التحمل إلى الأداء من غير تخلل نسيان.
14. ألا يخالف الراوي مرويه.
15. ألا يخالفه بعض الأئمة من الصحابة.
16. ألا يعرض الصحابة عن الاحتجاج به.
ينظر دراسات في أصول الحديث على منهج الحنفية.


الشق التطبيقي:
كتاب الطلاق
باب ما جاء في البتة
  [1146] حدثني يحيى عن مالك انه بلغه ان رجلا قال لعبد الله بن عباس: إني طلقت امرأتي مائة تطليقة فماذا ترى على؟ فقال له بن عباس: طُلقت منك لثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا.
[1147] وحدثني عن مالك انه بلغه ان رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني طلقت امراتي ثماني تطليقات، فقال بن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي انها قد بانت مني، فقال بن مسعود: صدقوا من طلق كما امره الله فقد بين الله له، ومن لبس على نفسه لبسا جعلنا لبسه ملصقا به، لا تلبسوا علي أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما يقولون.
ليس في الخبرين ذكر البتة. وإنما أدخلهم مالك في باب البتة لبعلم أنه يرى البتة ثلاثا، وأن الثلاث لازمة.
1.         اتفقوا على لزوم الثلاث في مجلس واحد إلا ما روي عن ابن إسحاق والحجاج.
لازم: اتفاق من أهل السنة إلا الحجاج وابن إسحاق:
وهو مروي بالإضافة إلى من ذكر من الصحابة عن معاوية وعلي وعبد الله بن عمرو والمغيرة بن شعبة وابن مسعود.
قال أبو عمر: لا أعلم لهؤلاء مخالف من الصحابة، إلا ما انفرد به طاوس عن ابن عباس، وخالفه سائر أصحابه؛ فمجاهد وعمرو بن دينار وعطاء وسعيد بن جبير رووا عنه أن الثلاث مجتمعات لازمة. وحديث طاوس عن ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فأمضاه عليهم عمر». فرواية طاوس شاذة، كما أن طاوس روى عن ابن عباس ما عليه باقي الصحابة، ولم يرد خلاف عن الصحابة. وعلى ذلك جماعة علماء التابعين وفقهاء الأمصار.
غير لازمة: الحجاج بن أرطاة ومحمد بن إسحاق:
دليلهم: 1) حديث طاوس؛ وهي رواية شاذة. 2) وقياس الطلاق على سائر القرب؛ حيث قالوا لا يقع الطلاق لازما إلا إن كان على السنة قياسا على القُرَب. وهو جهل لأن الطلاق ليس قربة تترتب عليه آثاره وإن كان على غير السنة. 3) حديث ركانة فعن ابن عباس قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف طلقتها؟» قال: «طلقتها ثلاثا في مجلس واحد. قال: «إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت» قال: فارتجعها. قال ابن إسحاق: رُدت عليه لأن الطلاق كان لغير السنة.
وهذا الحديث منكر خطأ، وإنما طلق ركانة زوجته البتة، كذلك رواه الثقات أهل بيت ركانة عنه.
Üمالك ترك حديث ركانة لأنه وقع اختلاف في روايته؛ فروي بلفظ البتة وبلفظ الثلاثة، واستدل بالموقوف.
2.         اختلفوا في إيقاع الثلاث مجتمعات هل هو طلاق للسنة أم لغير السنة. بعد اتفاقهم على أن إيقاعه في الحيض بدعة.
o        مالك والكوفيين: لغير السنة؛ وهو قول أكثر السلف.
o        الشافعي: للسنة. وهو قول أحمد، إلا أنه قال: احب إلي ان يوقع واحدة.
الأدلة التي تشهد لقول مالك في أنه معصية:
ابن عباس: سئل عن رجل طلق ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله، فأندمه الله ولم يجعل له مخرجا.
عمر: كان إذا أتاه رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد أوجعه ضربا وفرق بينهما.
عمران بن حصين: سئل عن ذلك فقال، أثم بربه وحرمت عليه امرأته.
ابن عمر: من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه، وبانت منه امرأته.
سالم بن عبد الله بن عمر من التابعين: مثل قول ابن عمر.
الأدلة التي تشهد لقول الشافعي في أنه سنة:
  روي عن جماعة من التابعين منهم الشعبي وابن شهاب والقاسم والحسن.
واستدل الشافعي بحديث عبد الله بن عمر (امره فليارجعها...) قال: إن جاز المرة جاز اثنين وثلاثة[13].
Ü فالشافعي أخذ بالدلالة التبعية للحديث، بينما ثبت مالك على الدلالة الأصلية عملا بما عليه الصحابة.
ولعل مالكا إنما عدل عن الاستدلال بالحديث رغم أن دلالته الأصلية تسعفه لاحتماله رأي الشافعي، فاختار الموقوف لذلك [ففي الحديثين الموقوفين إشارة إلى أن المطلق ثلاثا رافع للرخصة التي جعلها الله له في العدد، ففعله بدعة].
[ 1148 ] وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن حزم ان عمر بن عبد العزيز قال له البتة، ما يقول الناس فيها؟ قال أبو بكر: فقلت له كان أبان بن عثمان يجعلها واحدة، فقال عمر بن عبد العزيز: لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منها شيئا من قال البتة فقد رمى الغاية القصوى. 
[ 1149 ] وحدثني عن مالك عن بن شهاب ان مروان بن الحكم كان يقضي في الذي يطلق امرأته البتة انها ثلاث تطليقات.
قال مالك: وهذا أحب ما سمعت إلى في ذلك.
اختلفوا هل لفظ البتة يقتضي الثلاث؟
مالك: من طلق امرأته البتة فهي ثلاث؛
أبو حنيفة والشافعي: إن نوى بها ثلاثا فهي ثلاث، وإن نوى أقل فهي كما نوى إلا أنها بائنة عند الأول بخلاف الثاني.
حجة مالك:
قول مالك مروي عن علي وابن عمر وزيد وابن عباس وأبي هريرة وعائشة. ومن التابعين عن ابن مسيب وعروة والزهري ومكحول.
أبو حنيفة والشافعي:
حديث ركانة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ما أردت إلا واحدة؟» فقال ركانة: «والله ما أردت إلا واحدة»، فردها النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه طلقها البتة.
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر نيته في طلاقها البتة، وردها عليه (رجعي). واستدل الأحناف برواية فيها لفظ «فهو ما أردت» دون التصريح بأنه ردها عليه، فدل على أنها بائنة.
السلف: هذا القول مروي عن عمر وابن مسعود، وهو قول ابن جبير وغيره.
التعليق:
مالك تشهد لرأيه مجموعة من النصوص:
¬    حديث ركانة المروي بلفظ الثلاث؛ إذ كأن مالكا يقول إن أصل الحديث لفظ "البتة" إلا أنه روي بالمعنى، ولولا أن البتة ثلاث عنهم لما سبق ذلك إلى ذهن الراوي؛ وهذا إعمال من مالك للمعنى التبعي للحديث. والشافعي يرى أن لفظ "الثلاث" خطأ.
¬    الآثار الموقوفة؛ إلا أن هناك آثار أخرى تخالفها.
¬    حكم الحاكم؛ وحكم الحاكم رافع للخلاف.
إلا أن مالكا عدل عن المرفوع والموقوف واستدل بالقضاء، للأسباب الآتية:
¬    اختلف في لفظ الحديث، فروي بلفظ الثلاث، وروي بلفظ البتة[14]، وفي روايات أن النبي نوّاه، وفي رواية لم ينوه؛
¬    اختلف السلف من الصحابة والتابعين؛ فرغم أن ما ورد من الموقوف صريح، إلا أنه مختلف فيه.
¬    وردت أقضية بأن البتة تقع ثلاثا نوى أو لم ينو؛ وحكم الحاكم رافع للخلاف[15]
قاعدة: قد يصحح مالك أصل الحديث ولا يحتج ببعض أجزائه لمخالفتها الأصول؛ فقد احتج بجزء من حديث ركانة، ولم يحتج بما يدل على أن الثلاث في مجلس واحد لا تلزم لأنها مخالفة للأصل المشتهر عن السلف وهو لزومها.

باب ما يبين من التمليك 
 [ 1155 ] حدثني يحيى عن مالك انه بلغه أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، اني جعلت أمر امرأتي في يدها فطلقت نفسها فماذا ترى؟ فقال: عبد الله بن عمر: أراه كما قالت. فقال الرجل: لا تفعل يا أبا عبد الرحمن، فقال بن عمر: انا افعل؟ أنت فعلته.
 [ 1156 ] وحدثني عن مالك عن نافع ان عبد الله بن عمر كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته أمرها فالقضاء ما قضت به، إلا ان ينكر عليها ويقول: لم أرد إلا واحدة، فيحلف على ذلك ويكون أملك بها ما كانت في عدتها.
مالك: له أن يناكرها في التمليك، ويحلف، فإن نكل لزمه ما طلقت به نفسها.
الشافعي: قوله أمرك بيدك، أو اختاري ليس بشيء إلا أن يريد الطلاق فيقع كما نوى.
أبو حنيفة: إذا طلقت نفسها وقعت واحدة بائنة، إلا ان تنوي ثلاثا.
التعليق:
سبب الخلاف هل يغلب ظاهر لفظها أم النية.
ومالك لم يكتف بالأثر الأول لأن فيه إجمالا فيما يتعلق بالمناكرة، ففسره بالثاني.
 
باب مالا يبين من التمليك
 [ 1159 ] حدثني يحيى عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين انها خطبت على عبد الرحمن بن أبي بكر قريبة بنت أبي أمية فزوجوه ثم إنهم عتبوا على عبد الرحمن وقالوا ما زوجنا الا عائشة فأرسلت عائشة إلى عبد الرحمن فذكرت ذلك له فجعل أمر قريبة بيدها فاختارت زوجها فلم يكن ذلك طلاقا.  
 [ 1160 ] وحدثني عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ان عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زوجت حفصة بنت عبد الرحمن المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب بالشام فلما قدم عبد الرحمن قال ومثلي يصنع هذا به ومثلي يفتات عليه فكلمت عائشة المنذر بن الزبير فقال المنذر فإن ذلك بيد عبد الرحمن فقال عبد الرحمن ما كنت لأرد أمرا قضيته فقرت حفصة عند المنذر ولم يكن ذلك طلاقا. 
 [ 1161 ] وحدثني عن مالك انه بلغه ان عبد الله بن عمر وأبا هريرة سئلا عن الرجل يملك امرأته أمرها فترد ذلك إليه ولا تقضي فيه شيئا فقالا ليس ذلك بطلاق.
[..........] وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب انه قال إذا ملك امرأته أمرها فلم تفارقه وقرت عنده فليس ذلك بطلاق.
قال مالك في المملكة إذا ملكها زوجها أمرها ثم افترقا ولم تقبل من ذلك شيئا فليس بيدها من ذلك شيء وهو لها ما داما في مجلسهما.
إذا اختارت زوجها هل يقع طلاقا؟
اتفق الفقهاء على أن المملكة إذا اختارت زوجها لم يقع عليها طلاق،
وقد روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه ولم يقع طلاقا.
وذكر الحسن بأنهن خيرن بين الدنيا والآخرة لا بين فراقه والبقاء معه. ولعل هذا الاحتمال هو سبب عدول مالك عن الاحتجاج بهذا الخبر.
هل لها الخيار بعد المجلس؟
جمهور الفقهاء على أن لها ذلك ما دامت في مجلسها. وهو المشهور عن مالك وروى عنه ابن القاسم خلافه إلا أنه رجح الأول.
وذهب داود وبعض أصحابه إلى أن لها الخيار حتى تقضي، وإن قامت من مجلسها.
ومما استدل به هؤلاء حديث عائشة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا فِي حِينِ تَخْيِيرِهِ لِأَزْوَاجِهِ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَستَأْمِرِي أَبَوَيْكِ وَلَمْ يَقُلْ فِي مَجْلِسِكِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ لَا حُجَّةَ فِي هَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ حَتَّى تُشَاوِرَ أَبَوَيْهَا وَلَا خِلَافَ فِيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ مُدَّةَ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ
التعليق:
مالك عدل عن حديث عائشة المرفوع لأنه يحتمل التخيير بين الدنيا والآخرة، كما يدل ظاهره على أن لها تطليق نفسها بعد المجلس. فاعتمد الموقوف لذلك.
باب ما جاء في الخلع
 [ 1174 ] حدثني يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن انها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصاري انها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه فقالت انا حبيبة بنت سهل يا رسول الله قال ما شأنك قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله ان تذكر فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس خذ منها فأخذ منها وجلست في بيت أهلها
 [ 1175 ] وحدثني عن مالك عن نافع عن مولاة لصفية بنت أبي عبيد انها اختلعت من زوجها بكل شيء لها فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر.
قال مالك في المفتدية التي تفتدى من زوجها انه إذا علم ان زوجها أضر بها وضيق عليها وعلم انه ظالم لها مضى الطلاق ورد عليها مالها. قال فهذا الذي كنت اسمع والذي عليه أمر الناس عندنا.
 قال مالك لا بأس بأن تفتدي المرأة من زوجها بأكثر مما أعطاها.
التحليل:
حكم الخلع:
هذا الحديث أصل في جواز الخلع، واتفق على جوازه بمقدار الصداق فما دونه إن كان بغير إضرار؛ والأصل في منعه عند الإضرار قوله تعالى: «وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا ءاتيتموهن».
وشذ بكر بن عبد الله المزني، فقال لا يحل له أخذ شيء منها. لقوله تعالى: «وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ... فلا تاخذوا منه شيئا ... غليظا» وهي ناسخة لـ «فلا جناح عليهما فيما افتدت به».
والآيتان يمكن الجمع بينهما بحمل إحداهما على حال الإضرار والأخرى على حال الرضى، ومتى أمكن الجمع سقط القول بالنسخ. وهذا خلاف السنة الثابة.
مقدار ما يجوز أن يأخذ الرجل من زوجته:
اختلف في ذلك:
أبو حنيفة وطاوس وعطاء والزهري: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، لظاهر الحديث "كل ما أعطاني عندي" فأمره رسول الله أن يأخذه منها. وابن المسيب والشعبي وحماد: مع الكراهة.
مالك والشافعي: يجوز له أن يأخذ أكثر مما أعطاها.
التعليق:
الحديث المرفوع لا دليل فيه على منع الاختلاع بأكثر من الصداق، لذلك عضده بالموقوف.
بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ
15 -وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ»
16 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّةِ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا -[608]- سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ» قَالَ مَالِكٌ: «وَالْغِيلَةُ أَنْ يَمَسَّ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ»
- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: «وَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْعَمَلُ»
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره.
صورته: أن يبيع رجل متاعا لرجل ثم أفلس الرجل الذي اشتراه ووجد البائع متاعه الذي باعه عنده فهو أحق به من غيره من الغرماء. وفيه خلاف.
الاختلاف:
مالك والشافعي: إذا أفلس الرجل وعنده متاع قد اشتراه وهو قائم بعينه فإن صاحبه أحق به من غيره من الغرماء. وهو ما يدل عليه ظاهر الحديث.
وروى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث مرسلا أيما رجل باع سلعة فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به.
رأي الحنفية: بائع السلعة أسوة للغرماء.
فالحنفية عدلوا عن ظاهر الحديث.
تأويل الطحاوي: (الحديث في العواري والمغصوب والودائع ونحوها)
قال: المذكور في الحديث "من أدرك ماله بعينه" والمبيع ليس هو عين ماله وإنما هو عين مال قد كان له، وإنما ماله بعينه يقع على المغصوب والعواري والودائع وما أشبه ذلك، فذلك ماله بعينه، فهو أحق به من سائر الغرماء.
ومما يدل على صحة التأويل: حديث عن سمرة بن جندب أن رسول الله قال من سرق له متاع أو ضاع له متاع فوجده عند رجل بعينه فهو أحق بعينه ويرجع المشتري على البائع بالثمن[16]
وسبب عدولهم عن ظاهر الحديث مخالفته لقياس الأصول.
والأصل أن المبيع إذا دخل في ملك المشتري فلا حق لغيره فيه، والبائع وغيره في ذلك سواء فلا يخصص به البائع ويشترك هو وغيره من الغرماء.
التعليق:
فهذا خبر واحد خالف أصلا عاما، وراويه ليس فقيها، إلا أنه يقبل التأويل، فأوله الطحاوي، وقوى وجه تأويله بحديث ضعيف.
وخرج غير الأحناف قول الأحناف على أنه رد للحديث لمخالفته القياس ولا يجوز تقديم شيء على السنة إن ثبتت (ابن بطال)، أو أنه تأويل فاسد (القرطبي والنووي). ومما رد به هذا التأويل أن صاحب الوديعة والمال المغصوب أو العارية أحق بماله، سواء وجده بعينه أو لم يجده، فلا يجوز حمل الخبر عليه.
وذكر العيني أنهم لم يردوا الحديث بالقياس بل عملوا بهما معا. فأولوا الحديث ليوافق الأصل العام.
حديث المصراة عند العيني
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: ­«لاَ تَصُرُّوا الإبِلَ والْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فإنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بعد أنْ يَحْتَلِبَهَا إنْ شاءَ أمْسَكَ وإنْ شَاءَ رَدَّهَا وصاعَ تَمْرٍ »[17].
مالك والشافعي: من اشْترى مصراة فحلبها فَلم يرض بهَا فَإِنَّهُ يردهَا إِن شَاءَ، وَيرد مَعهَا صَاعا من تمر، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: يُؤَدِّي أهل كل بلد صَاعا من أغلب عيشهم. ودليلهم ظاهر الحديث.
أبو حنيفة: لَيْسَ للْمُشْتَرِي رد الْمُصراة بِخِيَار الْعَيْب، وَلكنه يرجع بِالنُّقْصَانِ من الثمن. وروي عنه لا يرجع.
فأبو حنيفة ترك العمل بهذا الحديث كما صرح العيني. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التصرية.
وأجابوا عن الحديث بأجوبة:
¬  النسخ: منسوخ بحديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وقد تفرقا. ورُد بأن خيار العيب لا تقطعه الفرقة.
¬  الاضطراب: مرة روي صاعا من تمر، وصاعا من طعام، ومثل لبنها، وثلي لبنها.
¬  معلول: لأنه يخالف عموم الكتاب «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» والسنة المشهورة «الغلة بالضمان» فما استغله منها فهو له لأنها لو تلفت بيده لم لكن له على البائع شيء. فيتوقف عن العمل بظاهره.
قال في عون المعبود: وأقوى الوجوه في ترك العمل به مخالفتها للأصول من ثمانية أوجه منها:
1.      قال: مُخَالفَته للقاعدة الْأَصْلِيَّة ظَاهِرَة، وَهِي أَن ضَمَان الْمثل بِالْمثلِ وَضَمان الْمُتَقَوم بِالْقيمَةِ، وَهَذِه الْقَاعِدَة مطردَة فِي بَابهَا، 
2.      وقال: إِن الْقَوَاعِد تَقْتَضِي أَن يكون الْمَضْمُون مُقَدّر الضَّمَان بِقدر التَّالِف، وَذَلِكَ مُخْتَلف، وَقد قدر هَهُنَا بِمِقْدَار وَاحِد وَهُوَ الصَّاع، فَخرج عَن الْقيَاس.
ولم ينفرد به أبو هريرة، بل روي عن عمر وأنس. وقال ابن عبد البر هذا الحديث مجمع على ثبوته من جهة النقل. قال العيني: حديث عمر وأنس ضعيفان. فلا تثبت إلا رواية أبي هريرة.
قال في رد المختار: “ و تصروا بضم التاء وفتح الصاد من التصرية وهي ربط ضرع الناقة أو الشاة وترك حلبها اليومين أو الثلاثة حتى يجتمع اللبن. ... وهو مخالف للقياس الثابت بالكتاب والسنة والإجماع من أن ضمان العدوان بالمثل أو القيمة والتمر ليس منهما فكان مخالفا للقياس ومخالفته مخالفة للكتاب والسنة وإجماع المتقدمين فلم يعمل به لما مر، فيرد قيمة اللبن عند أبي يوسف وقال أبو حنيفة ويرجع على البائع بأرشها”[18].
والخلاصة أن العيني لم يصرح باخياره لوجه رد الأحناف، والظاهر أنه يقول برده لمخالفته الأصول، فهو خبر واحد، راويه ليس فقيها فأبو هريرة ليس فقيها عندهم، ولا يحتمل التأويل ليوافق الأصول، فرد لذلك.



[1] يريد خبر الواحد.
[2] - ومما أورده فيه قوله: "حدثني صحيب لنا كان معنا يقال له محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق الهروي قال: سمعت محمد بن خزيمة النيسابوري يقول: سمعت عبد الله بن هاشم الطوسي يقول: كنا عند وكيع فقال: «الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله، أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش عن أبي وائل أقرب فقال: الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه»
[3] -ينظر الملحق 1.
[4] - مميزات نقد القرون الثلاثة الأولى:
هنا نماذج اعتماد النقاد على المرويات للحكم على الراوي.
 محمد بن موسى العترى الكوفى، سمعت ابى يقول ذلك.
وسألت ابى عنه فقال: هو شيخ يدل حديثه على الصدق.
سلمة بن مسلمة، حدثنا عبد الرحمن قال سألت ابى عنه فقال: ليس بقوى، عنده مناكير، يدل حديثه على ضعفه، يسند كثيرا مما لا يسند.
محمد بن سلمة الكوفى سمعت ابى يقول ذلك، وسألته عنه فقال هو شيخ لا اعرفه وحديثه ليس بمنكر.
[5] - روى الخطيب عن سفيان قال: «ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك» وعن ابن مهدي قال: «الناس ثلاثة، رجل حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه»
[6]- ينظر مقدمة الباجي لكتاب التجريح والتعديل.
[7]- الإكليل كتاب للحاكم وهو في السيرة، إلا أنه مفقود، وقد طبع المدخل إليه.
[8]- لأن الفقهاء لا يهتمون كلا محدثين بالاعتقادات والبدع فيها، وذلك روما منهم لاعتماد شروط يمكن ضبطها؛ فنظرتهم للعدالة مختلفة؛ فلا يردون بالبدعة في الاعتقاد. والمحدثون أنفسهم اختلفوا في مفهوم العدالة، فدل على أن شرطهم هذا غير علملي لذلك تركوه كما قال الصنعاني.
[9]- والتيقظ يريدون به وجها خاصا من الضبط؛ فلا يقتضي هذا الشرط أن يكون ضابطا لجميع مروياته، لأن عندهم طرقا أخرى لإثبات الضبط فهم في الاحتجاج يقابلون الحديث بأدلة أخرى.
[10]- فالفقهاء مثلا لا يرون الشذوذ علة بخلاف المحدثين وحق لهم ذلك نظرا لما تميزوا به عن الفقهاء من استقراء الطرق وتتبعها.
[11]- لنا أن نتساءل هنا عن سبب عدم اعتماد الفقهاء على شروط نقد المحدثين مع أنها أكثر تشددا. لعل السبب يرجع في ذلك إلى أن الفقهاء اهتموا بالاستدلال، والأحكام الشرعية لا تبنى على السنة فقط، بل تنضاف إليها أدلة أخرى؛ فرغم أنهم لم يشددوا في الحديث فلهم قرائن أخرى يستندون إليها في الاطمئنان إلى أن الحديث أمن من الخلل، منها اجتماع الأدلة، والفقه الموروث والعمل بوجه خاص. فبالاستناد إلى هذه القرائن يتحصل لديهم أمن أقوى بعدم اختلال الحديث.
[12]- وابن الصلاح إنما أخذ شرط عدم العلة من الحاكم والخطيب؛ إذ هما اللذان صرحا بهذا الشرط، أما الشافعي فقد صرح بعلل بنفسها حرصا منه على أن يكون كل ما يتعلق بالنقد ماديا منضبطا، وهي مخالفة الكتاب والسنة وغيرها من الشروط التي فصل. وهذا الاستنتاج من الخطيب وغيره بارع لأنه يلخص الكثير من الشروط. لكنه عند أهل الحديث لا يفيد إلا الثبوت، أما عند الفقهاء فيفيد أمورا أخرى وهي الفقه ومعرفة معاني النصوص مجتمعة، وهذا يفيدهم في تمييز ما يصلح للاحتجاج.
[13]- واستدل أيضا بحديث العجلاني الذي طلق زوجته ثلاثا بعد الفراغ من الملاعنة وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأجاب المالكية بأن الفرقة وقعت قبل الطلاق، فهو طلاق وقع على غير محل (لغو) لا يوصف ببدعة ولا سنة.
[14] -والأخير رواية الشافعي وهو من أهل بيت ركانة، فهو أعلم به. لذلك فهي أصح.
[15] -قال ابن رحال رحمه الله تعالى في فتح الفتاح: وقوله أي خليل، (وما فسخ) ظاهره أن الفسخ لا يحتاج إلى حكم حاكم، وهو كذلك إن كان متفقاً عليه، وأما المختلف فيه فلا بد فيه من حكم الحاكم؛ لأن المختلف فيه يحتاج إلى ترجيح قول على قول،قلت: ولعل هذا في غير هذه الأزمنة؛ لأن العمل بالراجح لا يخرج عنه القضاة، وعليه فطالب إذا عرف أن الراجح هو الفسخ فله أن يفسخ عن نفسه من غير حكم إن وافقته زوجته على ذلك.
[16] -قال: حديث سمرة هذا فيه الحجاج بن أرطأة والنخعي فيه مقال قلت ما للحجاج وقد روى عنه مثل الإمام أبي حنيفة والثوري وشعبة وابن المبارك وقال العجلي كان فقيها وقال أحد مفتي الكوفة وكان جائز الحديث وقال أبو زرعة صدوق مدلس وقال ابن حبان صدوق يكتب حديثه وقال الخطيب أحد العلماء بالحديث والحفاظ ل وفي (الميزان) أحد الأعلام وأبو معاوية محمد بن خازم الضرير وسعيد بن زيد وثقه ابن حبان وأبوه زيد بن عقبة وثقه العجلي والنسائي.  (وقد تكلم بخلاف هذا تماما عن الحجاج في حديث يخالف مذهبهم) فقال: الحجاج بن ارطاه غير محتج به، مدلس، تركه الأئمة النقاد.

[17] - سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في المصراة.
[18] - رد المختار، ج19، ص188.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire